من المخالفات قول الناس: ما شاء الله وشاء محمد، أو ما شاء الله وشئت، ففي المشيئة معنى لا ينبغي فيه تسوية أحد بالله، فالمشيئة لله أولاً (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، ثم للناس إن كانت في أمر مستطاع عليه، كبناء بيت أو طلب مال ونحوه من أمور الدنيا، فإن قال قائل ما شاء الله وشاء فلان فقد وقع في شرك أصغر، و عليه المبادرة بالتوبة والإستغفار. أما إن قصد القائل بما شاء الله وشئت تسوية غير الله بالله، أو قالها في أمر لا يقدر عليه إلا الله، كغفران ذنب أو إجابة دعاء، فهذا من الشرك الأكبر، قال تعالى (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ) .
ذكرت كلمة ما شاء الله في القرآن الكريم خمس مرات
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام : 128]
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 188]
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس : 49]
{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف : 39]
{إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى : 7]
باب قول: ما شاء الله وشئت |
قال المصنِّفُ رحمه اللّه تعالى: بابُ قولِ: ما شاء اللّه وشئتَ، عن قُتَيلة: أنَّ يهوديا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنكم تشركون، تقولون: ما شاء اللّه وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أنْ يحلفوا، أن يقولوا: وربِّ الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء اللّه ثم شئت". رواه النسائي وصححه[1] . |
ش: قوله: عن قُتيلة.- بمُثنَّاة مصغَرة- بنت صيفي الأنصارية، صحابيةٌ مهاجرة، لها حديثٌ في سنن النسائي، وهو المذكور في الباب. ورواه عنها عبد الله بن يسار الجُعفي. |
وفيه: قبولُ الحق ممن جاء به كائناً من كان. وفيه: بيانُ النهي عن الحلف بالكعبة، مع أنها بيتُ اللّه التي حجُّها وقصدها بالحج والعمرة فريضة. |
وهذا يُبيِّن أنّ النهي عن الشرك باللّه عامٌّ ، لا يصلح منه شيء لا لملَك مقرَّب ولا لنبي مرسل، ولا للكعبة التي هي بيتُ اللّه في أرضه. |
وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم، من الحلف بالكعبة وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا اللّه. ومن المعلوم أنَّ الكعبة لا تضر ولا تنفع، وإنما شَرع اللّه لعباده الطواف بها والعبادة عندها، وجعلها للأمة قبلة. فالطوافُ بها مشروع، والحلف بها ودعاؤها ممنوع. |
فَمَيِّز أيها المكلف بين ما يُشرع وما يمنع، وإن خالفك مَن خالفك من جهلة الناس الذين هم كالأنعام، بل هم أضلُّ سبيلا. |
قوله: إنكم تُشركون، تقولون: ما شاء اللّه وشئت، والعبدُ وإن كان له مشيئةٌ فمشيئته تابعة لمشيئة اللّه، ولا قدرة له على أن يشاء شيئاً إلاَّ إذا كان اللّه قد شاءه، كما قال تعالى:{لمن شاء منكم أنْ يستقيم. وما تشاءون إلا أن يشاء اللّه ربُّ العالمين}. [التكوير: 28 _ 29]. وقوله: {إنَّ هذه تذكرةٌ فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . وما تشاءون إلاَّ أنْ يشاء اللّه إنَّ اللّه كان عليما حكيما} [الإنسان: 29-.3]. |
وفي هذه الآيات والحديث: الردُّ على القدرية والمعتزلة نفاةِ القدر، الذين يُثبتون للعبد مشيئةً تخالف ما أراد اللّه تعالى من العبد وشاءه. |
وسيأتي ما يُبطل قولهم- في باب ما جاء في مُنكري القَدَر- إن شاء اللّه، وأنهم مجوسُ هذه الأمة. |
وأمَّا أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنة في هذا الباب وغيره، واعتقدوا أنَّ مشيئة العبد تابعةٌ لمشيئة اللّه في كل شيء، مما يوافق ما شرعه اللّه وما يخالفه: من أفعال العباد وأقوالهم. فالكلُّ بمشيئته[2] وإرادته، فما وافق شرْعَه[3] رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه من العبد؛ كما قال تعالى: {إن تكفروا فإن اللّه غنيٌّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفرَ وإنْ تشكروا يْرضَه لكم }. [ الزمر: 7]. |
وفيه: بيانُ أنَ الحلف بالكعبة شرك، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على قوله: إنكم تشركون. |
قال المصنِّفُ رحمه اللّه تعالى: وله أيضا، عن ابن عباس: أنَّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني للّه ندا، بل ما شاء الله وحدها"[4] . |
ش: هذا يُقرِّر ما تقدَّم: من أنَ هذا شركٌ، لوجود التسوية في العطف بالواو. وقوله: "أجعلتني للّه ندا؟ " فيه: بيانُ أنَ من سوَّى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله نداً لله، شاء أم أبى. خلافا لما يقوله الجاهلون بما يختص بالله تعالى من عبادته[5] ، وما يجب النهيُ عنه من الشرك بنوعيه. ومن يُرد الله به خيراً يفقَهه في الدين[6] . |
قال المصنِّفُ رحمه اللّه تعالى: ولابن ماجة: عن الطُّفيل- أخي عائشة لأُ مّها- قال: رأيتُ كأني أتيتُ على نفر من اليهود، قلتُ: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عُزيرٌ ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكر تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررتُ بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيحُ ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء اللّه وشاء محمد. فلما أصبحتُ، أخبرتُ بها من أخبرت. ثم أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "هل أخبرتَ بها أحداً؟" ثم قلتُ: نعم. قال: فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: "أمَّا بعدُ، فإنَّ طُفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمةً كان يمنعني كذا وكذا أنْ أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده"[7] . |
ش: قوله: عن الطفيل أخي عائشة لأمها. هو الطُّفيل بن عبد الله بن سَخْبرة، أخو عائشة لأمها، صحابيٌّ له حديثٌ عند ابن ماجة، وهو ما ذكره المصنِّف في الباب. |
وهذه الرُّؤيا حق، أقرَّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعمل بمقتضاها. فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء اللّه وحده. |
وهذا الحديث والذي قبله: أمرَهم فيه أنْ يقولوا: ما شاء اللّه وحده، ولا ريب أنَّ هذا أكملُ في الإِخلاص وأبعد عن الشرك، من أن يقولوا: ثم شاء فلان، لأن فيه التصريحَ بالتوحيد، المنافي للتنديد من كل وجه. فالبصيرُ يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإِخلاص. |
وقوله: "كان يمنعني كذا وكذا أنْ أنهاكم عنها" ورد في بعض الطُّرق: أنه كان يمنعه الحياءُ منهم. وبعد هذا الحديث الذي حدَّثه به الطفيلُ عن رؤياه، خطبهم صلى الله عليه وسلم فنهى عن ذلك نهياً بليغا. |
فمازال صلى الله عليه وسلم يبلّغهم حتى أكمل اللّه له الدين وأتم له به النعمة، وبلَّغ البلاغ المبين، صلواتُ الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. |
وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الرُّؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة"[8] قلتُ: وإنْ كانت رؤيا منام فهي وحي، يثبت بها ما يثبت بالوحي أمراً ونهيا[9] . واللّه أعلم. |
[1] النسائي في "المجتبى" 7/6 "وعمل اليوم والليلة" رقم 986، وأخرجه أحمد في "المسند" 6/ 371، 372 والطحاوي في "مشكل الآثار" 1/91 ، 357 والحاكم في "المستدرك " 4/297 وصححه ووافقه الذهبي، وعنه البيهقي في "السنن" 3/216 قال ابن حجر في "الإِصابة" 4/389: حديثٌ صحيح. |
[2] هـ ط: بمشيئة اللّه. |
[3] ض هـ ط: ما شرعه. |
[4] النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم 88 9، وقد مضى تخريجُه في أوَّل الكتاب. |
[5] هـ ط: عبادة. |
[6] قطعة من حديث، أخرجه البخاري في "الصحيح" رقم 3116 ومسلم في "الصحيح " رقم 1037 وأحمد في "المسند" 4/92، 93، 95، 96، 99، 101 من حديث معاوية رضي الله عنه. |
[7] ابن ماجة في "السنن " رقم 2118 قال البوصَيري في "مصباح الزجاجة" 2/151: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم، وأخرجه أحمد في "المسند" 5/ 72، 393 والدارمي في "السنن " رقم 2702 وابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 654 والطبراني في "الكبير" رقم 8214. |
[8] أخرجه البخاري في "الصحيح " رقم 6989، ومسلم في "الصحيح" رقم 2263، 2265، وأحمد في "المسند" 2/ 369 من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عمر. |
[9] وذلك لإِقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، وأمره به. |